الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {فَرِيقًا هدى} بأن وفقهم للإيمان {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} بمقتضى القضاءِ السابقِ التابعِ للمشيئة المبنيةِ على الحِكَم البالغةِ، وانتصابُه بفعل مُضمرٍ يفسِّره ما بعده أي وخذل فريقًا {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله} تعليلٌ لخِذلانه أو تحقيقٌ لضلالتهم {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} فيه دِلالةٌ على أن الكافرَ المُخطِئَ والمعانِدَ سواءٌ في استحقاق الذمِّ وللفارق أن يحمِلَه على المقصِّر في النظر. اهـ..قال الألوسي: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}وروي عن الحبر أن المعنى كما بدأكم مؤمنًا وكافرًا يعيدكم يوم القيامة فهو كقوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2].وعليه يكون قوله سبحانه: {فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} بيانًا وتفصيلًا لذلك، ونظيره قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} بعد قوله عز شأنه: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ} [آل عمران: 59] قيل: وهو الأنسب بالسياق.وذكر الطيبي أن هاهنا نكتة سرية وهي أن يقال: إنه تعالى قدم في قوله سبحانه: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] المشبه به على المشبه لينبه العاقل على أن قضاء الشؤون لا يخالف القدر والعلم الأزلي ألبتة وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر روعيت في التفسير وزيد أخرى عليها وهي أنه سبحانه قدم مفعول {هُدًى} للدلالة على الاختصاص وأن فريقًا آخر ما أراد هدايتهم وقرر ذلك بأن عطف عليه {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} وأبرزه في صورة الإضمار على شريطة التفسير أي أضل فريقًا حق عليهم الضلالة وفيه مع الاختصاص التوكيد كما قرره صاحب المفتاح لتنقطع ريبة المخالف ولا يقول: إن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالتهم انتهى.وكأنه يشير بذلك إلى رد قول الزمخشري في قوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله} أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليل على أن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليتهم الشياطين دون الله تعالى فجملة {إِنَّهُمُ اتخذوا} على هذا تعليل لقوله سبحانه: {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} ويؤيد ذلك أنه قرئ {أَنَّهُمْ} بالفتح.ويحتمل أن تكون تأكيدًا لضلالهم وتحقيقًا له وأنا والحق أحق بالاتباع مع القائل: إن علم الله تعالى لا يؤثر في المعلوم وأن من علل الجبر به مبطل كيف والمتكلمون عن آخرهم قائلون: إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه إنما الكلام في أن قدرة الله تعالى لا أثر لها على زعم الضلال أصحاب الزمخشري ونحن مانعون لذلك أشد المنع.ولا منع من التعليل بالاتخاذ عند الأشاعرة لثبوت الكسب والاختيار ويكفي هذه المدخلية في التعليل.والزمخشري قدر الفعل في قوله سبحانه: {وَفَرِيقًا حَقَّ} خذل ووافقه بعض الناس وما فعله الطيبي هو المختار عند بعض المحققين لظهور الملاءمة فيه وخلوه عن شبهة الاعتزال.واختير تقديره مؤخرًا لتتناسق الجملتان، وهما عند الكثير في موضع الحال من ضمير {تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] بتقدير قد أو مستأنفتان، وجوز نصب {فَرِيقًا} الأول و{فَرِيقًا} الثاني على الحال والجملتان بعدهما صفتان لهما، ويؤيد ذلك قراءة أبي {تَعُودُونَ تَعُودُونَ فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا} الخ، والمنصوب على هذه القراءة إما بدل أو مفعول به لأعني مقدرًا.ولم تلحق تاء التأنيث لحق للفصل أو لأن التأنيث غير حقيقي، والكلام على تقدير مضاف عند بعض أي حق عليهم كلمة الضلالة وهي قوله سبحانه: {ضَلُّواْ}.{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد.ولعل الكلام من قبيل بنو فلان قتلوا فلانًا والأول لكونه في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطئ والثاني مختص بالثاني وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه، واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار.ومذهب البعض أنه معذور ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلًا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعًا في طلبه فحيث يعذر الأول لعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك، ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة ولله تعالى الحجة البالغة، والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنار على علم وإنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل مما لا يقدم عليه إلا مسلم معاند أو مسلم مستدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت.وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطئ والظاهر ما قلنا، وجعل الجملة حالية على معنى اتخذوا الشياطين أولياء وهم يحسبون أنهم مهتدون في ذلك الاتخاذ لا يخفى ما فيه. اهـ..قال ابن عاشور: و{فريقًا} الأوّلُ والثّاني منصوبان على الحال: إمَّا من الضّمير المرفوع في {تعودون}، أي ترجعون إلى الله فريقين، فاكتُفي عن إجمال الفريقين ثم تفصيلِهما بالتّفصيل الدّال على الإجمال تعجيلًا بذكر التّفصيل لأنّ المقام مقام ترغيب وترهيب، ومعنى {فريقًا هدى}: أنّ فريقًا هداهم الله في الدّنيا وفريقًا حقّ عليهم الضّلالة، أي في الدّنيا، كما دلّ عليه التّعليل بقوله: {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله}، وإمّا من الضّمير المستتر في قوله: {مخلصين} أي ادْعُوه مخلصين حال كونكم فريقين: فريقًا هداه الله للإخلاص ونبذِ الشّرك، وفريقًا دام على الضّلال ولازم الشّرك.وجملة: {هدى} في موضع الصّفة لفريقًا الأوّل، وقد حذف الرّابط المنصوب: أي هداكم الله، وجملة: {حق عليهم الضلالة} صفة {فريقًا} الثّاني.وهذا كلّه إنذار من الوقوع في الضّلالة، وتحذير من اتّباع الشّيطان، وتحريض على توخي الاهتداء الذي هو من الله تعالى، كما دلّ عليه إسناده إلى ضمير الجلالة في قوله: {هدى} فيعلم السّامعون أنّهم إذا رجعوا إليه فريقين كان الفريق المفلح هو الفريق الذين هداهم الله تعالى كما قال: {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة: 22] وأنّ الفريق الخاسر هم الذين حَقّت عليه الضّلالة واتّخذوا الشّياطين أولياء من دون الله كما قال: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} [المجادلة: 19].وتقديم {فريقًا} الأوّل والثّاني على عامليهما للاهتمام بالتّفصيل.ومعنى: {حق عليهم الضلالة} ثبتت لهم الضّلالة ولزموها.ولم يقلعوا عنها، وذلك أنّ المخاطبين كانوا مشركين كلّهم، فلمّا أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين افترقوا فريقين: فريقًا هداه الله إلى التّوحيد، وفريقًا لازم الشّرك والضّلالة، فلم يطرأ عليهم حال جديد.وبذلك يظهر حسن موقع لفظ: {حق} هنا دون أن يقال أضلّه الله، لأنّ ضلالهم قديم مستمر اكتسبوه لأنفسهم، كما قال تعالى في نظيره: {فمنهم من هدى اللَّه ومنهم من حقت عيله الضلالة} [النحل: 36] ثمّ قال: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل} [النحل: 37]، فليس تغيير الأسلوب بين: {فريقًا هدى} وبين {وفريقًا حق عليهم الضلالة} تحاشيا عن إسناد الإضلال إلى الله، كما توهمه صاحب الكشاف، لأنّه قد أسند الإضلال إلى الله في نظير هذه الآية كما علمت وفي آيات كثيرة، ولكنّ اختلاف الأسلوب لاختلاف الأحوال.وجُرد فعل حقّ عن علامة التّأنيث لأنّ فاعله غير حقيقي التّأنيث، وقد أظهرت علامة التّأنيث في نظيره في قوله تعالى: {ومنهم من حقت عليه الضلالة} [النحل: 36].وقوله: {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله} استئناف مراد به التّعليل لجملة {حقت عليه الضلالة} [النحل: 36]، وهذا شأن إنّ إذا وقعت في صدر جملة عقب جملة أخرى أن تكون للرّبط والتّعليل وتغني غَنَاء الفاء، كما تقدّم غيرَ مرّة.والمعنى أنّ هذا الفريق، الذي حَقت عليهم الضّلالة، لمّا سمعوا الدّعوة إلى التّوحيد والإسلام، لم يطلبوا النّجاة ولم يتفكّروا في ضلال الشّرك البيِّن، ولكنّهم استوحوا شياطينهم، وطابت نفوسهم بوسوستهم، وائتمروا بأمرهم، واتّخذوهم أولياء، فلا جرم أن يدوموا على ضلالهم لأجل اتّخاذهم الشّياطين أولياء من دون الله.وعطف جملة: {ويحسبون} على جملة: {اتخذوا} فكان ضلالهم ضلالًا مركبًا، إذ هم قد ضلّوا في الائتمار بأمر أئمّة الكفر وألياء الشّياطين، ولمّا سمعوا داعي الهُدى لم يتفكّروا، وأهملوا النّظر، لأنّهم يحسبون أنّهم مهتدون لا يتطرق إليهم شكّ في أنّهم مهتدون، فلذلك لم تخطر ببَالهم الحاجة إلى النّظر في صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم والحسبان الظنّ، وهو هنا ظن مجرّد عن دليل، وذلك أغلب ما يراد بالظنّ وما يرادفه في القرآن.وعطف هذه الجملة على التي قبلها، واعتبارهما سواء في الإخبار عن الفريق الذين حقّت عليهم الضّلالة، لقصد الدّلالة على أنّ ضلالهم حاصل في كلّ واحد من الخبرين، فولاية الشّياطين ضلالة، وحسبانهم ضلالهم هدى ضلالة أيضًا، سواء كان ذلك كلّه عن خطأ أو عن عناد، إذ لا عذر للضّال في ضلاله بالخطأ، لأنّ الله نصب الأدلّة على الحقّ وعلى التّمييز بين الحقّ والباطل. اهـ..قال الشعراوي: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}اذكروا أننا قلنا من قبل: إن الله هدى الكل.. بمعنى أنه قد بلَّغهم بمنهجه عبر موكب الرسل، وحين يقول سبحانه: {فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} فالمقصود هنا ليس هداية الدلالة، لكن دلالة المعونة. وقد فرقنا بين هداية الدلالة وهداية المعونة.وقوله الحق {فَرِيقًا هدى} أي هداية المعونة؛ لأن هذا الفريق أقبل على الله بإِيمان فخفف الله عليه مؤونة الطاعة، وبغّضه في المعصية، وأعانه على مهمته. أما الذي تأبّى على الله، ولم يستجب لهداية الدلالة أيعينه الله؟ لا. إنه يتركه في غيِّه ويخلي بينه وبين الضلالة، ولو أراده مهديًّا لما استطاع أحد أن يغير من ذلك. وسبحانه منزه عن التجني على أحد من خلقه، ولكن الذين حق عليهم الضلالة حصل لهم ذلك بسبب ما فعلوا. {... إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]إن من يرتكب المعصية ويعترف بمعصيته فهذه تكون معصية، أمّا من يقول إنها هداية فهذا تبجح وكفر؛ لأنه يرد الحكم على الله. وخير للذين يرتكبون المعاصي أن يقولوا: حكم الله صحيح ولكننا لم نقدر على أنفسنا، أما أن يرد العاصي حكم الله ويقول: إنه الهداية، فهذا أمره عسير؛ لأنه ينتقل من مرتبة عاصٍ إلى مرتبة كافر والعياذ بالله. {... وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]لأنهم يفعلون ما حرم الله، وليتهم فعلوه على أنه محرّم، وأنهم لم يقدروا على أنفسهم، ولكنهم فعلوه وظنوا أن الهداية في الفعل. وهذا الأمر يشيع في معاصٍ كثيرة مثل الربا، فنجد من يقول: إنه حلال، ونقول: قل هو حرام ولكن لم أقدر على نفسي، فتدخل في زمرة المعصية، ولا تدخل في زمرة الكفر والعياذ بالله، ويمكنك أن تستغفر فيغفر لك ربنا، ويتوب عليك، ولكن أن ترد الحكم على الله وتقول إنه حلال!! فهذا هو الخطر؛ لأنك تبتعد وتخرج عن دائرة المعصية وتتردى وتقع في الكفر، اربأ بنفسك عن أن تكون كذلك واعلم أن كل ابن آدم خطاء، وما شرع الله التوبة لعباده إلا لأنه قدَّر أن عبيده يخطئون ويصيبون، ومن رحمته أنه شرع التوبة، ومن رحمته كذلك أنه يقبل هذه التوبة، فلماذا تخرج من حيز يمكن أن تخرج منه إلى حيز يضيق عليك لا تستطيع أن تخرج منه؟. اهـ.
|